فلسطين…الحتمية العربية
فلسطين…الحتمية العربية
كتب: محمد لافي
لم يسلم العدو نفسه للكسل راكنا الى الانتصار الذي حققه عام 1948 ولم تؤثر الاحتجاجات على تركيزه، فهو يعلم ان هذا النصر ناقص وورقي بالقدر نفسه الذي شكله من قسوة وألم في نفوس العرب الذين كانوا قبله يحلمون بالدولة العربية الواحدة، فإذا بهم يتلقون ضربات سايكس بيكو تفتتهم، واحتلال فلسطين يطوح بثقتهم في كياناتهم المستحدثة. ويعلم أيضا ان امتيازه بكونه واحدا من نقاط الالتقاء النادرة بين القوتين العظمتين؛ السوفياتية التي غذته بالجسم الأكبر من المستوطنين وكانت اول من اعترف به، والأمريكية المنتصر الوحيد عمليا من الحرب العالمية، وثالثة الاثافي التي رغم افولها لا زالت برصيد لا يستهان به من النفوذ وهي المؤسسة الشمطاء بريطانيا، ومن ثم الحصوات الأخرى المتناثرة لميزد من الثبات لثكنته العسكرية.
ورغم كل ما يعلمه من هذه الامتيازات، كان يؤمن أن كل هذا لا يمنع الخطر المتعاظم في نفوس الشباب العربي الطموح، الذي بدأ يعي أن هزيمة 48 ما هي الا جولة وان باستطاعته ان يستجمع قواه ويحرر الأرض والانسان ويمضي قدما على طريق الوحدة، وهو يشهد عليه الثوار في العالم، يحققون انتصاراتهم بقوة الإرادة على الوحشية الامبريالية في مصر وكوبا وفيتنام وكوريا والجزائر وايرلندا.
كان الصوت عاليا من العرب والعدو، فالجولة الثانية من الحرب قادمة لا محالة، العدو يعلم أن الأراضي التي احتلها لا ترتقي لتشكل دولة قابلة للحياة شكلا ومضمونا في خضم هذا الغضب والتصاعد في الروح الثورية العربية، والسلطات العربية تريد تسكين هذا الغضب الجماهيري بالخطابة والوعيد للعدو من جهة، ومطاردة الثوريين العرب من جهة أخرى، وبضربة خاطفة استمرت ستة أيام، اراحت قوات العدو دباباتها في اليوم السابع وقد احتلت قطاع غزة والضفة الغربية، شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان في الخامس من حزيران 1967 او ما اختارت له العقلية المسرحية تسمية النكسة، وكأن هناك ما كان يدل على تقدم واجهته معضلة صغيرة.
ليس بعيدا عن قسوة احتلال تلك المساحات الشاسعة كان عمق الانكسار الذي أصاب الروح العربية هو الخطر الأكبر. فقد تبخر كل حلم بالتحرير وضاعت معه وعود الوحدة واوشك الأمل ان ينطفئ في نفوس الجماهير من ضربة أرادها العدو قاضية لكل طموح، تجبر العرب على الخنوع والاستسلام النهائي. فوحدة الجناحين الاسيوي والافريقي للأمة العربية أمسى مستحيلا بعد أن أكمل العدو تثبيت اسفينه فاصلا الرأس عن الجسد في أهم بقعة من العالم على مر العصور، تلك المساحة التي كانت مطمحا لعظماء العسكرية منذ إسكندر الأكبر مرورا بجنكيز خان واوغسطين ونابليون وريتشارد وليس انتهاء بلنبي وغورو، وكانت عنوانا لنهضة المشرق العربي وانكساراته منذ سجلها التاريخ في العصور الحديدية مع الكنعانيين والاشوريين والفراعنة والدولة العربية الإسلامية التي كانت تزدهر بالسيطرة عليها وتهتز حتى السقوط حين تخسرها، وهكذا كانت حتمية التاريخ بنسختها العربية في حرب حزيران.
سقوط تراجيدي لهذه الامة تواصل منذ الاحتلال الأول وتكرس مع الاحتلال الثاني، لم تغن المعارك الرسمية عن دفعنا لمزيد من الهزائم المتواصلة، ابتداء من التخلي عن مفهوم معركة التحرير حتى التطبيع مع العدو الذي يوشك ان يصير قاعدة كل مناهض لها موصوم بالشذوذ.
غير ان ما كان من قسوة هزيمة حزيران 1967 متمثلا أوضح غاية في كسر الامل، فإن الهزيمة الحقيقية هي أن تستمر هذه الهزيمة طوال هذه العقود، فأخذ الثوريون العرب على عاتقهم الاستمرار في المقاومة، قدموا خلالها النموذج الحقيقي للروح العربية، رغم كم الشهداء والتضحيات كانت انتصاراتها بليغة في إبقاء شمعة الامل متقدة، منهم من استمر رغم الظروف ومنهم من طوحت به أوهام التسليم.
دون ان نأخذ العبر من كل ذلك، فالهزيمة والتسليم لم يزد فينا الا انهزاما، ومهادنة العدو زادنا هوانا وذلا وجوعا، تشهد لذلك خبرتنا مع كل ذلك، فلا السلام المزعوم عوض تردي الحالة المعيشية، ولا التماهي مع سطوة العدو اعطتنا ارضا او نهضت بنا من وحل يأسنا.
لقد استغل العدو كل منعطف وكل ثغرة تسببت بها غياب الروح لدينا ليزيد من انسحاقنا، لأنه يعلم تماما ما نظن انه الجوهر.. الروح التي ما ان تستيقظ وتعي وجودها هي الخطر الذي سيتهدد بقاء هذا الكيان، وهي الطريق الوحيد لاسترداد ارضنا وكرامتنا وانسانيتنا، ومهما كان التفوق العسكري والتغلغل الاستعماري منهكا، فإن الوعي وحده سيعلن النهاية الحتمية لكل نكسات ونكبات العرب، ولولا اجتهاد العدو على إبقاء روحنا منهكة باليأس والانهزام لعلم ان نهايته قاب قوسين. انها حتمية الشرق العربي التي يعيها عدونا ونتجاهلها.